فى الأيام الأولى من حقبة الثمانينات التأمت الأسرة فى قاعة السينما فى الدور الأرضى من بيت منشية البكرى. وقاعة السينما بالأصل صالة طعام رئيسية كان يستضيف فيها الرئيس ضيوفه الكبار على موائد العشاء. جلست أمى تحية كاظم وحدها على كرسى فى الصف الأول، وجلست فى الخلف مع زوجتى داليا فهمى، وكان معنا شقيقاى عبدالحميد وعبدالحكيم بصحبة زوجتيهما إيمان ونجلاء، كانت أحاديثنا فى ذلك المساء عادية حول بعض شئوننا الاجتماعية، ولم نتوقع أننا بصدد حادث عاصف بالمواجع القديمة. أخذ عامل السينما عبدالعظيم يستعد لعرض شريط سينمائى حديث، ولكنه أخطأ فى الشريط وفوجئنا بالعرض يبدأ، وصورة أبى على غير انتظار تطل على الشاشة ومشاهد الملايين الملتاعة تزحف خلف نعشه بأنشودة وداع صاغتها بعفوية الوادع يا جمال يا حبيب الملايين. الشريط السينمائى عنوانه أنشودة الوداع للمخرج على عبدالخالق. شيء أقرب إلى الصاعقة ضربنا. أمى غرقت فى بكاء مرير بصوت مرتفع، ومع بكاء أمى أخذتنا الدموع إلى مدى بعيد لم نتصور منذ لحظات، وبعد عشر سنوات تقريبا من وفاة أبى، أننا سوف نذهب إليه.. كأنه مات الآن، كأننا فقدناه الآن، شعرنا بحسرة الفراق، وكما لم يحدث من قبل، لم استطع متابعة الشريط السينمائى وغادرت القاعة مسرعا. بقميص أزرق طويل وبنطلون رمادى خفيف فى قدميه وقف أبى ذات مساء من الصيف الأخير فى شرفة واسعة على يسار استراحة المعمورة فى الإسكندرية، الاستراحة تواجه البحر مباشرة، كنا فى مطالع الصبا، نلهو على البحر، وأبى يتابعنا من بعيد، ويتمشى أحيانا فى البلكونة، وأحيانا ينزل للتمشى على البحر. كان يشاور لنا من بعيد، ونحن نرد التحية بحماسة، كنا متعلقين به بصورة لا تصدق، كانت مشيته فى الصيف الأخير تبدو عادية أو لعله أراد بعناده المعروف أن يتحدى المرض، وأن يخفى آلامه عنا، وأن يبدو طبيعيا، بدت حالته الصحية بالنسبة لى تحت السيطرة، لم يكن هناك ما يقلق ولا خطر فى بالنا أن هذه آخر أيامنا مع جمال عبدالناصر، غير أن ضغط الأحداث عليه، من الاستعداد لتحرير الأراضى المحتلة بقوة السلاح إلى مجازر أيلول الأسود أخذ ينال من صحته ويضع قلبه فى مرمى نيران النهاية. ذات مرة قال لى لن يتركونى أبدا، ونهايتى إما مقتولا أو سجينا أو فى مقابر الغفير كان يدرك أن القوى العاتية التى حاربها سوف تحاول الانتقام، وأن الانتقام سوف يكون مريعا، وعندما حدثت هزيمة يونيو كان تصوره أن طالب الناس بشنقه فى ميدان التحرير، فإذا بالملايين يخرجون مطالبين القائد المهزوم بالبقاء، وكما لم يحدث فى التاريخ من قبل. كنا على مائدة غداء ذات يوم عام 1970، ولسبب ما قلت: مضت ثلاث سنوات وكنت أتحدث عن موضوع شخصى مضت عليه هذه الفترة، التفت عبدالناصر تجاهى، قال وكأنه يحادث نفسه: ثلاث سنوات؟!. كانت هذه السنوات قد مضت على النكسة.. لم ينس أبدا هذا الجرح. مارس 1969، استشهد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المصرية على جبهة القتال الأمامية، صدمة عبدالناصر باستشهاد رياض بدت صاعقة كان يراهن على الجنرال الذهبى فى تحرير أراضينا المحتلة بقوة السلاح تحت وابل من النيران وأفق مشتعل بالنار ثقته بالكفاءة العسكرية لرياض كانت بلا حدود، لكنه شعر أيضا بالفخر لاستشهاد رئيس أركان حرب القوات المسلحة على جبهة القتال، مصر تغيرت، ونفضت ثياب الهزيمة بإرادة المقاتلين وبدماء الشهداء، وهو المعنى الذى التقطته مئات الألوف التى خرجت تودع رياض فى جنازة مهيبة اخترقت ميدان التحرير من جامع عمر مكرم. أصر الرئيس على أن يتقدم صفوف الجنازة وتحدى إجراءات الأمن وأزاح رجال الحراسة وذاب وسط الجماهير، كان لديه إيمان صوفى بالجماهير، يشعر بالتوحد معها، وبأنه فى مأمن تماما بحمايتها، رجال الأمن أصابهم الفزع، اقترب أحد ضباط الحراسة من الرئيس بصعوبة شديدة وقال: يا فندم كفاية كده نهره عبدالناصر بيده ومضى فى الجنازة حتى نهايتها متأثرا بهتاف الشعب.. رياض ما متش والحرب لسه مانتهتش حتى الآن.. ورغم مضى كل هذه السنوات الطويلة يساورنى شعور طاغ بتقصير الأطباء فى علاج الرئيس إلى حد كبير، حاولوا إرضاء الرئيس على حساب صحته، وقد تفرض أجندة الالتزامات أن يلقى خطابا جماهيريا أو يعقد اجتماعا سياسيا فى ظل أزمة صحية تستدعى أن يستريح. يقول للأطباء: عاوز أروح أخطب فيلتزمون بما طلب دون مناقشة أو اعتراض، يعطونه مضادات حيوية من أقوى جرعة ممكنة، وفى اعتقادى أن هذا النوع من العلاج بتسكين الآلام لمقتضيات السياسة هو أقرب إلى سوء استخدام تكنولوجيا المضادات الحيوية، وقد أنهك صحة أبى بصورة خطيرة. ليس من واجب الطبيب أبدا أن يستجيب لطلبات المريض، حتى ولو كان رئيس الجمهورية، ليس من واجب الطبيب حين يقول له الرئيس: تعال ادينى حقنة ريفالين أن يكون الرد الفورى حاضر لا أغفر لأطباء عبدالناصر هذا التساهل المفرط فى مقتضيات العلاج. السيرة الصحية لوالدى ترتبط بتواريخ السياسة.. أثناء الحصار الاقتصادى الذى فرضه الغرب على مصر أصابه مرض السكر عام 1958 بعد نكسة 67 نالت منه مضاعفات السكر بصورة خطرة، إرهاق العمل المتواصل فى الليل والنهار لتحرير الأراضى المحتلة بقوة السلاح أصابه بأزمة قلب، وأزماته الصحية كان يمكن باستمرار تداركها، مضاعفات السكر تمت السيطرة عليها، أما الإرهاق وتحدى أوامر الأطباء بالراحة فلا سبيل لتداركهما، من عرف عبدالناصر فى تلك الأيام كان يدرك بسهولة أنه غير مستعد للنوم مرتاحا أو الاستمتاع بأى شيء قبل إزالة آثار العدوان. قبل ذهاب والدى لمصحة تسخالطوبو فى الاتحاد السوفيتى للاستشفاء قضى شهرا كاملا فى الإسكندرية على سرير المرض متأثرا بمضاعفات مرض السكر، فيللا المعمورة ثلاثة أدوار وأبى وأمى يعيشان فى الدور الثالث.. دخلت عليه ذات يوم فى غرفة النوم فوجدته يتأوه من الألم، حاول أن يخفى علامات الألم، كنا نحس به، لكنه نجح لحد كبير فى خداعنا والتهوين علينا، لم نعرف أنه أصيب بأزمة قلبية حتى فوجئنا بالثانية القاتلة، حتى أمى لم تعرف.. لا أسامح نفسى حتى الآن على أننى لم أفهم أن إقامة المصعد فى بيت منشية البكرى فى 21 ساعة تعنى أن أبى أصيب بأزمة قلبية تمنعه من صعود السلم للدور الثانى. صاحبنا الرئيس والدتى وأنا وشقيقاى عبدالحميد وعبدالحكيم فى رحلة العلاج لمصحة تسخالطوبو فى الاتحاد السوفيتى، تحسنت حالته الصحية هناك، لم يكن مسموحا لنا بالحضور معه فى جلسات العلاج. قضينا فى تسخالطوبو أوقاتا رائعة، لم نكن قلقين على صحته.. لعله نجح فى خداعنا، ومازلت أعتقد أن والدى مات بالإرهاق أكثر مما مات بأزمة قلب أيلول الأسود. نصحه الأطباء بممارسة الرياضة، بدأ يلعب التنس فى ملعب خلفى فى البيت، مدربه اسمه غريب مازال يمارس التدريب حتى الآن فى نادى القوات المسلحة فى الجلاء منذ الخمسينيات، كان أبى يلعب التنس مع محافظ القاهرة صلاح الدسوقى، بعودة أبى لممارسة الرياضة كنا نقول له:عايزين نلعب معاك يا بابا، ونستمر فى خبط الكوره كنا نلعب معه أحيانا كرة قدم، يشوط أبى الكرة ويقول اجر يا خالد كنت أسمع كلامه كجندى وأجرى أسابق الريح لإحضار الكرة، وفى السنوات الأخيرة عندما بدأ يتألم من مضاعفات مرض السكر،كان يطلب منى أن أرتدى أحذيته الجديدة الناشفة ويقول البس الجزمة يومين طريها واديها لى. ا28 سبتمبر 1970 الساعة الخامسة من مساء هذا اليوم كنت انتهيت لتوى من تدريب كرة اليد فى نادى هليوبولس فى ضاحية مصر الجديدة، جلست مع أصدقائى فى التراس نحتسى الشاى والقهوة، كانت على المائدة المقابلة داليا فهمى زوجتى فيما بعد، لم يكن هناك شيء غير عادى، مؤتمر القمة الطارئ لايقاف نزيف الدم فى عمان انتهى بالنجاح، أبى يعود اليوم للبيت بعد أربعة أيام قضاها فى فندق هيلتون النيل للمشاركة فى القمة وإجراء الاتصالات الضرورية، لم أكن أعرف أنه لم ينم ولم يرتح طوال هذه الأيام بسبب أنه لابد من وقف نزيف الدم الفلسطينى فجأة رأيت أمامى عصام فضلى، وهو ضابط من قوة الحراسة الخاصة بالرئيس، لم يحدث من قبل أن أرسل والدى لاستدعائى ضابطا من حرسه الشخصى قال لى تعالا عاوزينك فى البيت. ولم يزد حرفا. فى أقل من خمس دقائق وصلت، صعدت سلم البيت قفزا بتساؤل كاد يشل الروح:ماذا حدث؟ .فكرت فى كل احتمال، ولم يخطر على بالى أبدا ما حدث ، حركة غير عادية فى الدور الثانى فى غرفة الرئيس، الباب مفتوح، أبى أمامى على السرير مرتديا بيجامة.. طبيبه الخاص الدكتور الصاوى حبيب يحاول انقاذ حياته بصدمات كهرباء للقلب، السيد حسين الشافعى فى زاوية الحجرة، يصلى ويبتهل إلى الله، الدكتور الصاوى قال بلهجة يائسة كلمة واحدة:خلاص. الفريق أول محمد فوزى نهره بلهجة عسكرية:استمر ثم أجهش بالبكاء.. نفذ أمر الله، أخذت الأصوات ترتفع بالنحيب. لم أبك، وقفت مصدوما.. بكيت بمفردى بعد أسبوعين لثلاث ساعات مريرة. لم أصدق أن أبى رحل فعلا، أمى أخذتها حمى الأحزان الكبيرة، أخذت فى الصراخ والعويل كأى زوجة مصرية بسيطة تنعى رجلها وجملها فى غمرة الحزن طلبت أمى من صديقى محمد الجيار ألا يغادر غرفة الرئيس أبدا، لمدة ثلاث ساعات جلس الجيار على الأرض بجوار سرير عبدالناصر يبكى بحرقة ويقبل قدميه. جاء أنور السادات وتبعته على عجل السيدة جيهان بفستان أزرق، السادات نهرها:امشى البسى أسود وتعالى. بدأ توافد كبار المسئولين فى الدولة على البيت، بعد قليل اجتمع عدد كبير من الوزراء وقيادات الدولة فى صالون منشية البكرى، تقرر نقل جثمان الرئيس لقصر القبة حيث تتوافر هناك امكانات الحفاظ عليه فى درجة تبريد عالية لحين إحضار ثلاجة خاصة لهذه الحالات، والانتهاء من إجراءات الجنازة وإعلان الخبر الحزين على الشعب. بدأت الإذاعة والتليفزيون فى بث آيات من القرآن الكريم، لم يدر أحد بما حدث، حاولت داليا الاتصال بى للاطمئنان، أخيرا أمكنها الوصول لعامل السويتش..أخبرها وهو يبكى:الريس مات. قوة الحراسة الشخصية لعبدالناصر، وفى مقدمتهم محمد طنطاوى الذى كنا نطلق عليه لقب الطبيب حملت جثمان الرئيس على نقالة إسعاف بلا غطاء، وجهه مكشوف، ابتسامة رضا تعلو وجهه، رائحة الموت كريهة، لكنها بدت مسكا، أمى تابعت الجثمان المحمول على نقالة إسعاف بصراخ رهيب دوى فى المكان الذى كان للحظات قليلة مضت المقر الذى تدار منه مصر والصراعات على المنطقة، قال لها السادات على طريقة أهل الريف فى مثل هذه الأحوال: يا تحية هانم.. أنا خدامك مضى أبى أمام عيوننا محمولا على نقالة إسعاف ولم يعد، لم نره مرة أخرى. لم تذهب معه أمى ولا أحد من أبنائه لقصر القبة. أمى جلست على السلم تنتحب، حتى الآن مازالت تدوى فى وجدانى كلمات أمى الملتاعة، وهى تتابع الخروج الأخير لعبدالناصر من بيت منشية البكرى: وهو عايش خدوه منى وهو ميت خدوه منى. سيارة إسعاف الرئاسة نقلت جثمان أبى من بيت منشية البكرى إلى قصر القبة قبل إعلان الخبر المفجع على الرأى العام فى مدخل القصر الرئاسى قابلت أنور السادات، طلبت منه بإلحاح: عاوز أشوفه يا سيادة النائب. رفض السادات هذا الطلب، قد تكون له أسبابه، ربما خشى أن تنفلت مشاعر شاب صغير لرؤية جثمان والده، ومع ذلك لن أغفر للسادات أبدا أنه لم يمكنى من إلقاء نظرة أخيرة على أبى. مساء الاثنين 28 سبتمبر، 1970، نهر الدموع امتد من الماء للماء على خريطة أمة العرب، فى كل قرية عربية مأتم، قال المصريون البسطاء: عمود الخيمة سقط قرأ المصريون فى طوفان الدموع ما سوف يحدث غدا وبعد غد بهتاف: عبدالناصر يا عود الفل من بعدك حنشوف الذل.. الأناشيد الحزينة أخذت تدوى فى سماء القاهرة التى كانت يومها عاصمة العرب وعاصمة حركات التحرير الوطنى، صرخات ملتاعة تستعيد اسما واحدا لخص كل شيء، حقبة كاملة من الصعود والانكسار، النصر والهزيمة، اسما بدا شهابا قد مضى وتاريخا قد مضى، وإرادة ومقاومة لم يعد يعرف أحد ماذا سوف يحدث بعدها، مات عبدالناصر فجأة، ولم يكن أحد يتوقع أن يغيب مبكرا فى سن الثانية والخمسين، الصدمة المروعة هزت مشاعر المصريين أخذ الملايين يصرخون باسم رجل يرقد وحده فى غرفة مبردة فى قصر القبة. كان أبى فى ذهابه وإيابه إلى البيت يشاهد مسجدا تبنيه إحدى الجمعيات الخيرية فى شارع الخليفة المأمون عند كوبرى القبة، بدا للرئيس أن مشكلات مالية تحول دون استكمال بناء المسجد، استقصى الأمر من معاونيه، تدخل لتوفير الإمكانات اللازمة لاستكمال البناء، لم يكن يدرى أنه سوف يدفن فى ضريح بهذا المسجد. عندما بدأت الحشود الهائلة من المصريين البسطاء تزحف باتجاه بيت منشية البكرى، فور الإعلان عن وفاة الرئيس وقفت عند مدخل البيت مأخوذا بالمشهد الحزين، شاهدت عن بعد شخصا يرتدى زى طلاب الكلية البحرية الأبيض، لم أتبين فى البداية من هو، حتى أدركت بعد قليل أنه أخى عبدالحميد، أتوا به على عجل من الإسكندرية، وقف عبدالحميد عاجزا عن دخول البيت من فرط الحشود التى حاصرته بقلوبها وأحزانها. كنت قد قاربت العشرين من عمرى يوم وفاة أبى، علاقتنا بالجيران فى منشية البكرى حكمتها قواعد أمن الرئيس، ومع ذلك لم نشعر يوما بأننا فى وضع أفضل لكوننا أبناء جمال عبدالناصر، ولا هو نفسه كان يسمح بأية ميزات لأبنائه، وذات مرة قال لى: لو استخدمت اسمى للإساءة إلى أحد أو تجاوز فى التصرف، فلن أتردد فى وضعك فى السجن الحربى. فى هذا اليوم الحزين طلب جيراننا من أطقم الحراسة رؤية خالد لتقديم واجب العزاء. طلبوا من أمى فى اليوم التالى أن تذهب لقصر القبة لتلقى العزاء من الشخصيات الدولية والعربية التى وفدت للعاصمة المصرية للمشاركة فى مراسم الجنازة. أمى لم تشعر بأنها فى مكانها الطبيعى، كانت تقول باستمرار عن بيت منشية البكرى بيتى وقررت أن تعود لبيتها كى تتلقى العزاء فيه، وتتخفف من المراسم الرسمية، بلا قصر قبة أو إجراءات خاصة، فالعزاء أرادته من بسطاء المصريين وعامة الناس. لثلاثة أيام تدفقت على بيتنا عشرات الألوف تعزى نفسها ولا تعزينا فى جمال عبدالناصر، الملايين أخذت طريقها من القرى البعيدة فوق أسطح القطارات فى أكبر عملية زحف فى التاريخ المصرى نحو العاصمة، ضافت الطرقات بأحزان المصريين، كانت مصر تبكى الرجل الذى أحبها كما أحبته، كنا فى بيتنا مأخوذين بالمشهد الجليل فى غمرة الحزن لم نشعر بأننا نحزن بمفردنا، مات عبدالناصر يوم الاثنين مضى الثلاثاء ببطء أشد. مضى يوم الأربعاء والأحزان تفيض على جنبات النيل، حان يوم الخميس، الوداع الأخير لعبدالناصر، يوم الهول العظيم فى مصر، ليلتها وفى ظلمة الحزن أخذت مصر تنشد بأصوات ملايينها الملتاعة أنشودة الليلة الأخيرة الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ثورتك ثورة كفاح عشتها طوال السنين. فى صباح يوم الوداع الأخير وضع جثمان أبى فى طائرة هيلكوبتر بصحبة طائرتى شرف، حلقت الطائرات فى سماء القاهرة فوق النيل، فوق أمواج البشر التى تدفقت إلى الشوارع بالملايين، المشهد أثار الأحزان. أخذت الجماهير الغفيرة تتطلع بعيون دامعة إلى السماء:الوداع يا جمال.لحظتها وقفت فى أرض ملعب الجولف فى نادى الجزيرة الرياضى مع شقيقى عبدالحميد وعبدالحكيم وصديقى محمد الجيار ومحمود القيسونى وكأننا يتامى بانتظار هبوط الطائرة بجثمان الأب الراحل. هبطت الطائرة ببطء، تحرك حرس الرئيس لنقل الجثمان بسيارة خاصة من الباب الخلفى للنادى القاهرى الشهير إلى مقر مجلس قيادة الثورة على النيل، لم أذهب إلى نادى الجزيرة بعدها غير مرة أو مرتين، الذهاب إلى هذا النادى يستدعى أحزانا فوق طاقتى الإنسانية على التحمل، فى مجلس قيادة الثورة وضعوا النعش على مصطبة عالية من الجرانيت، حكيم ارتمى باكيا على النعش، تصورنا فى البداية أن الجنازة سوف تمضى بتنظيم محكم، غير أن الأمور كلها أفلتت بضغط هائل من الجماهير الحزينة التى أخذت تصرخ يا ريس.. سايبنا ورايح فين بدأ الموكب الحزين من مجلس قيادة الثورة، وضعوا جثمان أبى على مدفع، مشينا وراءه كما كنا نمشى دائما، لكنه الآن لم يعد معنا، تدفقت الحشود تحاول أن تقتحم الموكب الرسمى، وفرضت كلمتها فى النهاية، ضغطت بتدافعها الرهيب على الرؤساء والقادة، تبخرت إجراءات الأمن المشددة ، وبعد قليل غادر المسئولون الكبار الجنازة بنصائح أمنية، ومضيت مع اخوتى وأصدقائى وحدنا وسط الحشود الهائلة وراء المدفع حتى فندق هيلتون النيل، الناس يضغطون علينا من الخلف فى محاولة للمس نعش الرئيس، وربما بأمل إلقاء نظرة أخيرة عليه من قريب، وفى تدافع الجموع بدا شقيقى الأصغر عبدالحكيم 51 عاما فى ذلك الوقت يعانى بشدة من ارتطام متوال بالمدفع، وأخذ يصرخ: ضلوعى حتتكسر ثم نظر حوله وكنا قد تباعدنا عنه، وخشى أن يكون قد ضاع فى وسط الزحام الرهيب، وأخذ ينادى بصوت عالأخوتى فين؟. كاد أن يضيع فعلا عبدالحكيم منا وسط تدفق أكثر من 5 ملايين مواطن فى تدافع رهيبب بأحزان كبرى على كوبرى النيل، خفت أن يضيع منا حكيم فى هذا اليوم، وأخذت أصرخ هاتوا أخويا الصغير. وكانوا قد حجزوا غرفة خاصة لوالدتى فى فندق هيلتون النيل، وعلى مقربة من هذا الفندق وقفت والدتى فى أعلى مقر الاتحاد الاشتراكى تتابع الجنازة بقلبها ودموعها، ولعلها خشيت فى هذا اليوم أن تفقد الزوج والابن الأصغر معا. من عند فندق النيل هيلتون أخذت سيارة إلى الجامع الذى أصبح فيما بعد معروفا باسم جامع جمال عبدالناصر عبر طريق صلاح سالم بصحبة صديقى محمود الجيار، وصلنا بصعوبة بالغة قبل صلاة الجنازة، دخلنا إلى حرم الجامع من ناحية الكلية الفنية العسكرية، البوابة كانت مغلقة، وبدأت الجماهير المحتشدة تدرك أن أولاد عبدالناصر قد وصلوا ثم تحركوا باتجاهنا، وبسرعة أصدر الفريق أول محمد فوزى القائد العام للقوات المسلحة الذى كان يستند بظهره إلى جدار الجامع الخارجى أوامره بعمل كردون من قوات الصاعقة من حولى حرصا على حياتى من فيض عواطف الحشود، رأيت عمى عز العرب يبكى بهستيريا ويضع على طريقة أهل الصعيد فى إبداء الحزن التراب على رأسه ويقوم بتمزيق الستائر. عاشت أمى سنوات طويلة بعد رحيل أبى، وتوفاها الله فى 25 مارس 1990، طوال هذه السنوات لم تخلع ملابس الحداد السوداء على جمال عبدالناصر، ألححنا عليها كثيرا لارتداء ملابس ملونة، وأحيانا كنا نبادر بشراء مثل هذه الملابس من أجلها، ونردد على مسامعها الحكمة المصرية الشهيرةالحزن فى القلب غير أنها لم تقتنع أبدا، وكان أملها الوحيد أن تدفن بجواره ذات يوم. المدفن عبارة عن حجرتين، دفن أبى فى إحداهما، وفيما بعد دفنت أمى فى الثانية، يومها أخذت تطالب وسط موجات من البكاء ما يشبه الوصية. لازم ادفن معاه، فى حجرة الدفن رأيت أشرف مروان ومحمد الجيار، ربما كان هناك آخرون لا أتذكرهم الآن، وفى غمرة الحزن قال أحد ضباط الحرس الجمهورى: ياريت أنا اللى مت. وما إن انتهت إجراءات الدفن حتى أخذ بعض العمال يسدون القبر بالطوب، وهذه كانت أسوأ لحظة فى حياتى. 2 ديسمبر1971، فى هذا اليوم عقدت قرانى على زوجتى داليا فهمى فى بيت منشية البكرى، فى حضور رئيس الجمهورية الجديد أنور السادات وعدد كبير من الوزراء وكبار المسئولين، حرصت يومها على دعوة أساتذتى فى كلية الهندسة من جامعة القاهرة، السادات شهد على وثيقة الزواج فى صالون جمال عبدالناصر، كل شيء يحيطه جلال الغياب، الملابس سوداء، وراعى الحضور إلى أقصى حد ممكن ضبط التصرفات المعتادة فى مثل هذه المناسبات حرصا على مشاعر أسرتى، نزلت أمى من الدور الثانى، سلمت على الضيوف. وبدا أنها قد تقبلت التهانى كما هو معتاد فى الأفراح، غير أنها كانت فى دنيا أخرى مع رجل آخر، فجأة أخذت تنظر حولها كمن تبحث عن شخص بعينه وتتوقع أن يكون على رأس الحفل السعيد، ثم أخذت تسأل :جمال فين.. الريس فين؟.. أمى سيدة مصرية بسيطة تؤمن بالله، وتصلى الفروض فى مواقيتها، وتزور أولياء الله الصالحين وفى الملمات تلجأ لمقام سيدنا الحسين، وتدرك أن هذه إرادة الله وحكمته، غير أنها فى هذه المناسبة العائلية افتقدت وجود رفيق حياتها، غابت كل الوجوه، وحضرت صورته، وحدها فى القلب.. لعشر دقائق كاملة أخذت تسأل.. والدموع فى عيوننا، ولا مجيب، ماتت أمى منذ خمسة عشر عاما، وهناك فى أمتنا بأوضاعها المحزنة الحالية، من لا يزال يسأل بإلحاح: جمال فين.. الريس فين؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
معرض الصور
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق