لم تعرف الدنيا منذ الأزل .. و لن تعرف إلى الأبد شعاعا كتمت أنفاسه ظلمات .. فشعاع الضوء مصيره إلى الظهور مهما طال احتباسه وراء الحجب .
وأهل الفكر والفن شموع و مصابيح مضيئة على طريق الحقيقة يستضئ بهم جيل بعد جيل .. وإذا كان لابد لشعاع الضوء أن ينطفئ فإنه أبدا لن ينطفئ شعاع الفكر .. والأستاذ العقاد سيبقى مضيئا ما بقى التراث الإنساني و ما بقيت كلمات الثقافة والفكر والفن .
فقد كان رحمه الله ذو فلسفة خاصة في الحياة لخصها في سطور قليلة مفادها : "غناك في نفسك ، و قيمتك في عملك ، و بواعثك أخرى بالعناية من غاياتك ، ولا تنتظر من الناس كثيرا تحمد عاقبته بعد كل انتظار".
دائرة معارف إنسانية
مع الأستاذ العقاد أنت بصحبة مفكر .. فيلسوف .. شاعر .. و أديب .. أنت يا سيدي أمام دائرة معارف إنسانية وجامعه في رجل .. يؤثرك بصفاء عقله وهذا الرواء الفني ، هذا الشموخ الهندسي في مقالاته .. فهو يخرج المعاني من المعاني .. و لا تعرف كيف ؟ .. ثم يستدرجك إلى ما لم يخطر على البال من نتائج .. فهو محام عظيم و مهندس فكرى جبار .. صاحب أسلوب راق في كل ما كتب .. و قلم حر لا يهادن أحد .. الإنسان و الدين قضيته ، بل هي أم القضايا .
كان العقاد يحب الحياة على الرغم من متاعبها وأذاها وعلى الرغم مما عاناه فيها من أمراض و شدائد ، لأنه كان يحب المعرفة و يغرم بها ، و يحب أن يصل إليها وتصل إليه ، و لو تحت التراب فعندما بلغ السبعين من عمره قال العقاد " لم يتغير حبي للحياة و لم تنقص رغبتي في طيباتها ، ولكني اكتسبت صبرا على ترك ما لابد تركه وعلما بما يفيد من السعي في تحصيل المطالب ومالا يفيد ، وزادت حماستي الآن لما اعتقد من الآراء .. وارتفع عندي مقياس الجمال فما كان يعجبني قبل عشر سنين لا يعجبني الآن ، فلست أشتهي منه أكثر مما أطيق .
وكنت أحب الحياة كعشيقة تخدعني بزينتها الكاذبة وزينتها الصادقة ، فأصبحت أحبها كزوجة ، أعرف عيوبها وتعرف عيوبي،لا اجهل ما تبديه من زينة و ما تخفيه من قبح و دمامة ، انه حب مبنى على تعرف و فهم .. و الحياة بمعناها و لفظها حياه ، سواء رضينا أو لم نرض و هي خير من الموت .
كان للعقاد فلسفة خاصة فى الحياة تميزه عن غيره : فيقول " لم أشعر قط بتعظيم إنسان لأنه صاحب مال ، و لم اشعر قط بصغرى إلى جانب كبير من كبراء الجاه و الثراء ، بل شعرت كثيرا بصغرهم و لو كانوا من أصحاب الفتوحات وأنا اعتقد أن نابليون مهرج أمام العالم باستور ، والاسكندر المقدوني بهلوان إلى جانب أرشميدس ، و أن البطل الذي يخوض الحرب ذودا عن الحق و العقيدة أكرم جدا من كل بطل يقتحم الحروب ليقال انه دوخ الأمم و فتح البلدان " .
تأثير الأسرة علي نشأته
كان العقاد مؤمنا بالله كل الإيمان ، لا عن وراثة فقط بل عن شعور وتأمل و تفكير طويل .. فقد نشأ بين أبوين شديدي التمسك بالدين ، لا يهملان فريضة من الفرائض اليومية ، فتح عينيه على الدنيا فوجد أباه يستيقظ قبل الفجر ليؤدى الصلاة و يبتهل إلى الله بالدعاء ولا يزال فى الصلاة إلى ما بعد طلوع الشمس ، فلا يتناول طعام الإفطار حتى يفرغ من أداء الفرض .
وكانت مكتبه والده تتكون من كتب الفرائض و العبادات وبعض كتب التاريخ ، ولا سيما السيرة النبوية وتراجم الأولياء الصالحين وأعداد صحيفة الأستاذ والطائف للنديم و صحيفة العروة الوثقى للأفغاني ومحمد عبده .
ورأى العقاد والدته فى عنفوان شبابها تؤدى الصلوات الخمس و تصوم و تطعم المساكين و قلما ترى النساء مصليات أو صائمات قبل الأربعين و ندر بين أقاربه من لا يسمى باسم من أسماء النبي وآله سواء منهم الرجال أو النساء وكان فى بيت خاله درس لقراءة الكتب الدينية و منها مختارات الأحاديث النبوية و كتب التفسير و أحياء علوم الدين للغزالى ، فكان للوراثة والبيئة شأن فيما عنده من الإيمان والاعتقاد الديني .
والعقاد كعالم ومفكر يرى الإيمان بالتفكير والوصول بالعقل إلى معرفة الله هو أسمي درجات الإيمان .. كما أن مزاج التدين و مزاج الأدب والفن يلتقيان عنده فى الحس و التصوير والشعور بالغيب وعظمه العالم و عظمه خالق العالم .. أما إيمانه فى مجال الأخلاق فهو الإيمان بالكمال فلا موجب عنده لعمل الخير غير طلب الكمال و فهم الكمال ، أما إيمانه بالأدب فهو أنه رسالة عقل إلى عقل ووحي خاطر إلى خواطر .
كان العقاد عظيم الشغف بأبي علاء المعرى وشعره فى بواكير شبابه ، لكنه ما لبث أن عدل عن ذلك ، فقد كان يجد فى شعر أبى علاء المعرى المغرق فى التشاؤم صدى ما فى نفسه من ضيق وتبرم وسخط على الحياة ولكن العقاد الدائم التأمل فى جوانب نفسه و طبيعة أفكاره وعواطفه أدرك أن تشاؤم الشباب شكوى عارضه وليس تشاؤما فلسفيا ، وقد يحنق المرء على الحياة لأنه يطلب منها الكثير وذلك هو ما يحدث فى طور الشباب و تعليل ذلك بسيط لأن الشباب سن الغنى النفسي وهو يقترن بالقلق وهو سن الحب و تلازمه اللوعة وسن الأقدام وقد يقترن بالندم و سن الزهد والجمال و معنى ذلك أنه سن التدلل و التجني .
وإذا كان الفرق بين الشباب و الشيوخ ، فرق فى المزاج و أسلوب تناول الحياة ظاهرها و باطنها ، فإن طبيعة الحياة أن كل من المزاجين متمم للأخر، وأن الحكمة ليست مقصورة على سن معين. وأن الطاقة الإنسانية وإن اختلفت فى الشباب عنها فى الشيوخ إلا إنها لازمة فى كل الأطوار لحياه المجتمع ولن يحدث أن يأتى زمن يقع العبء فيه على الشباب وحدهم أو على الشيوخ وحدهم ، غير أن بعض المراحل فى تاريخ الأمم تكون أحوج إلى نشاط الشباب فى حين أن البعض الآخر يحتاج إلى حنكة الشيوخ .. ويرى العقاد أن غليان الشباب قوة ، و فى الوضوح الذي يأتى من السن معرفة ، والمعرفة فى حد ذاتها قوة أيضا وهو بذلك لا يرجح كفه على كفه .
سر بكاء العقاد
كانت فلسفة العقاد فى الحب ، و هو الذي أحب مرتين أنه اندفاع روح الى روح ، واندفاع جسد إلى جسد .. وان الحب قضاء و قدر .. فهو يرى إننا نحب حين نختار ولا نختار حين نحب وإننا مع القضاء والقدر حين نولد و حين نحب وحين نموت ، لأن الحياة هى أطوار العمر التى تملك الإنسان و لا يملكها الإنسان .
وقد كتب العقاد سلسلة مقالات بعنوان ( مواقف فى الحب ) نشرها فى مجلة "الدنيا " الأسبوعية التى كانت تصدرها دار الهلال ، و قد جمع تلك المقالات فى كتاب ( سارة ) و هو اسم مستعار لفتاه دام الحب بينه و بينها عدة سنوات ثم صدم فى حبه و كانت الصدمة منها و كان الفراق بينهما و كان بكاءه الشديد وهو يرد إليها ذكرياتها عنده فى إحدى حدائق مصر الجديدة ولم يكن بكاؤه عن أسف عليها ولكن العقاد كان شديد الحساسية و سريع البكاء .
وقصة العقاد مع المرأة طويلة جدا و المتتبع لكتاباته يجد أن هذا الموضوع كان من موضوعات قراءاته الهامة و المتعددة .. فهو قرأ المائدة لأفلاطون وميتا فيزيقا الحب لشوبنهور ، كما قرأ ما كتبه علماء الجنس المتخصصون من أمثال " فرويد " و " أدلر " وغيرهم ، و قرأ فى سنه المبكرة كتاب " الجنس و الأخلاق " لأوتوفيننجر .. و أشار إليه فى مقال نشره بصحيفة ( البلاغ ) فى 26 نوفمبر1923م عن صفات المرأة نتيجة لتلك القراءات المتعددة عن المرأة وإمعان النظر فى تصرفاتها كان لابد أن يقف العقاد طويلا أمام قصة حواء حينما أكلت من الشجرة وزينت لآدم أن يأكل منها وكان كتابه ( هذه الشجرة ) .. وفى هذا الكتاب نظر العقاد إلى المرأة نظرة الفيلسوف المدقق والباحث الممحص و خرج فى نهاية بحثه أن تلك القصة التى تناقلتها الأديان هى الرمز الخالد فى طبيعة المرأة التى لا تتغير ، تفعل ما تنهى عنه و هى تغرى الرجل ، و فى كل هذين الخلقين دليل مجمل على خلائق أخرى مفصلة تنطوي فى ذلك الرمز لكبير ! كما انتهى فى بحثه أيضا إلى لذة العصيان ومن دلال يؤدى إلى لذة الممانعة ومن سوء ظن وعناد ضعف واستطلاع جهل و من عجز عن المغالبة وعجز عن الغلبة بغير وسيلة التشبيه والتعرض و الإغراء ولقد كانت لتلك الآراء التى ضمنها العقاد كتابه عن المرأة وقصة الشجرة أثرا فى نفوس البعض فتقولوا عليه بأنه عدو المرأة رقم واحد و أنه يحقد على المرأة و انه لا يعرفها ... إلى آخر تلك الأحكام المتسرعة . ولو أنهم دققوا النظر وأعملوا الفهم لوجدوا أنفسهم فى موقف المتجني على المفكر العملاق ، فالذي يقول فى كتابه ( المرأة فى القرآن ) وقد يوجد من النساء من تقوم شهادة إحداهن بشهادة ألف رجل ، في الوقت الذي يوجد من الرجال ألوف لا تقبل منهم شهادة .
أو الذي يقول فى مسألة الميراث أن زيادة حصة الأخ ليست مسألة أفضلية ولكن لأنه ــ الأخ ــ هو المسئول عن نفقة الأخت لأن الابن يعول من لا عائل لها من أهله ، و لأن رب البيت عامة هو الزوج أو الأب أو الرشيد من الأبناء والأخوة ومن إليهم لأن وجوب السعي على الرجل أولى و أصلح من تقريره على المرأة التى يظلمها من يساويها به فى واجبات السعي على المعاش مع نهوضها بواجب الأمومة و الحضانة وتدبير المعيشة المنزلية ، فهل من يقول هذا يمكن أن يتهم بالعداء للمرأة ؟
إن عملاق ومفكر مثل العقاد لا تتسع له المساحة المخصصة لهذا الموضوع بل يحتاج الأمر إلى كتب و مجلدات وعزائي أن الكاتب والفنان المبدع ذكرى .. و ذكرى العقاد ما تركه من رصيد أدبي له قيمته ، ومن أعمال ذات أثر فى نفوس الناس والأجيال .. و رصيد العقاد من الشموخ يجعله يتصدى لأعاصير الزمن.
وأهل الفكر والفن شموع و مصابيح مضيئة على طريق الحقيقة يستضئ بهم جيل بعد جيل .. وإذا كان لابد لشعاع الضوء أن ينطفئ فإنه أبدا لن ينطفئ شعاع الفكر .. والأستاذ العقاد سيبقى مضيئا ما بقى التراث الإنساني و ما بقيت كلمات الثقافة والفكر والفن .
فقد كان رحمه الله ذو فلسفة خاصة في الحياة لخصها في سطور قليلة مفادها : "غناك في نفسك ، و قيمتك في عملك ، و بواعثك أخرى بالعناية من غاياتك ، ولا تنتظر من الناس كثيرا تحمد عاقبته بعد كل انتظار".
دائرة معارف إنسانية
مع الأستاذ العقاد أنت بصحبة مفكر .. فيلسوف .. شاعر .. و أديب .. أنت يا سيدي أمام دائرة معارف إنسانية وجامعه في رجل .. يؤثرك بصفاء عقله وهذا الرواء الفني ، هذا الشموخ الهندسي في مقالاته .. فهو يخرج المعاني من المعاني .. و لا تعرف كيف ؟ .. ثم يستدرجك إلى ما لم يخطر على البال من نتائج .. فهو محام عظيم و مهندس فكرى جبار .. صاحب أسلوب راق في كل ما كتب .. و قلم حر لا يهادن أحد .. الإنسان و الدين قضيته ، بل هي أم القضايا .
كان العقاد يحب الحياة على الرغم من متاعبها وأذاها وعلى الرغم مما عاناه فيها من أمراض و شدائد ، لأنه كان يحب المعرفة و يغرم بها ، و يحب أن يصل إليها وتصل إليه ، و لو تحت التراب فعندما بلغ السبعين من عمره قال العقاد " لم يتغير حبي للحياة و لم تنقص رغبتي في طيباتها ، ولكني اكتسبت صبرا على ترك ما لابد تركه وعلما بما يفيد من السعي في تحصيل المطالب ومالا يفيد ، وزادت حماستي الآن لما اعتقد من الآراء .. وارتفع عندي مقياس الجمال فما كان يعجبني قبل عشر سنين لا يعجبني الآن ، فلست أشتهي منه أكثر مما أطيق .
وكنت أحب الحياة كعشيقة تخدعني بزينتها الكاذبة وزينتها الصادقة ، فأصبحت أحبها كزوجة ، أعرف عيوبها وتعرف عيوبي،لا اجهل ما تبديه من زينة و ما تخفيه من قبح و دمامة ، انه حب مبنى على تعرف و فهم .. و الحياة بمعناها و لفظها حياه ، سواء رضينا أو لم نرض و هي خير من الموت .
كان للعقاد فلسفة خاصة فى الحياة تميزه عن غيره : فيقول " لم أشعر قط بتعظيم إنسان لأنه صاحب مال ، و لم اشعر قط بصغرى إلى جانب كبير من كبراء الجاه و الثراء ، بل شعرت كثيرا بصغرهم و لو كانوا من أصحاب الفتوحات وأنا اعتقد أن نابليون مهرج أمام العالم باستور ، والاسكندر المقدوني بهلوان إلى جانب أرشميدس ، و أن البطل الذي يخوض الحرب ذودا عن الحق و العقيدة أكرم جدا من كل بطل يقتحم الحروب ليقال انه دوخ الأمم و فتح البلدان " .
تأثير الأسرة علي نشأته
كان العقاد مؤمنا بالله كل الإيمان ، لا عن وراثة فقط بل عن شعور وتأمل و تفكير طويل .. فقد نشأ بين أبوين شديدي التمسك بالدين ، لا يهملان فريضة من الفرائض اليومية ، فتح عينيه على الدنيا فوجد أباه يستيقظ قبل الفجر ليؤدى الصلاة و يبتهل إلى الله بالدعاء ولا يزال فى الصلاة إلى ما بعد طلوع الشمس ، فلا يتناول طعام الإفطار حتى يفرغ من أداء الفرض .
وكانت مكتبه والده تتكون من كتب الفرائض و العبادات وبعض كتب التاريخ ، ولا سيما السيرة النبوية وتراجم الأولياء الصالحين وأعداد صحيفة الأستاذ والطائف للنديم و صحيفة العروة الوثقى للأفغاني ومحمد عبده .
ورأى العقاد والدته فى عنفوان شبابها تؤدى الصلوات الخمس و تصوم و تطعم المساكين و قلما ترى النساء مصليات أو صائمات قبل الأربعين و ندر بين أقاربه من لا يسمى باسم من أسماء النبي وآله سواء منهم الرجال أو النساء وكان فى بيت خاله درس لقراءة الكتب الدينية و منها مختارات الأحاديث النبوية و كتب التفسير و أحياء علوم الدين للغزالى ، فكان للوراثة والبيئة شأن فيما عنده من الإيمان والاعتقاد الديني .
والعقاد كعالم ومفكر يرى الإيمان بالتفكير والوصول بالعقل إلى معرفة الله هو أسمي درجات الإيمان .. كما أن مزاج التدين و مزاج الأدب والفن يلتقيان عنده فى الحس و التصوير والشعور بالغيب وعظمه العالم و عظمه خالق العالم .. أما إيمانه فى مجال الأخلاق فهو الإيمان بالكمال فلا موجب عنده لعمل الخير غير طلب الكمال و فهم الكمال ، أما إيمانه بالأدب فهو أنه رسالة عقل إلى عقل ووحي خاطر إلى خواطر .
كان العقاد عظيم الشغف بأبي علاء المعرى وشعره فى بواكير شبابه ، لكنه ما لبث أن عدل عن ذلك ، فقد كان يجد فى شعر أبى علاء المعرى المغرق فى التشاؤم صدى ما فى نفسه من ضيق وتبرم وسخط على الحياة ولكن العقاد الدائم التأمل فى جوانب نفسه و طبيعة أفكاره وعواطفه أدرك أن تشاؤم الشباب شكوى عارضه وليس تشاؤما فلسفيا ، وقد يحنق المرء على الحياة لأنه يطلب منها الكثير وذلك هو ما يحدث فى طور الشباب و تعليل ذلك بسيط لأن الشباب سن الغنى النفسي وهو يقترن بالقلق وهو سن الحب و تلازمه اللوعة وسن الأقدام وقد يقترن بالندم و سن الزهد والجمال و معنى ذلك أنه سن التدلل و التجني .
وإذا كان الفرق بين الشباب و الشيوخ ، فرق فى المزاج و أسلوب تناول الحياة ظاهرها و باطنها ، فإن طبيعة الحياة أن كل من المزاجين متمم للأخر، وأن الحكمة ليست مقصورة على سن معين. وأن الطاقة الإنسانية وإن اختلفت فى الشباب عنها فى الشيوخ إلا إنها لازمة فى كل الأطوار لحياه المجتمع ولن يحدث أن يأتى زمن يقع العبء فيه على الشباب وحدهم أو على الشيوخ وحدهم ، غير أن بعض المراحل فى تاريخ الأمم تكون أحوج إلى نشاط الشباب فى حين أن البعض الآخر يحتاج إلى حنكة الشيوخ .. ويرى العقاد أن غليان الشباب قوة ، و فى الوضوح الذي يأتى من السن معرفة ، والمعرفة فى حد ذاتها قوة أيضا وهو بذلك لا يرجح كفه على كفه .
سر بكاء العقاد
كانت فلسفة العقاد فى الحب ، و هو الذي أحب مرتين أنه اندفاع روح الى روح ، واندفاع جسد إلى جسد .. وان الحب قضاء و قدر .. فهو يرى إننا نحب حين نختار ولا نختار حين نحب وإننا مع القضاء والقدر حين نولد و حين نحب وحين نموت ، لأن الحياة هى أطوار العمر التى تملك الإنسان و لا يملكها الإنسان .
وقد كتب العقاد سلسلة مقالات بعنوان ( مواقف فى الحب ) نشرها فى مجلة "الدنيا " الأسبوعية التى كانت تصدرها دار الهلال ، و قد جمع تلك المقالات فى كتاب ( سارة ) و هو اسم مستعار لفتاه دام الحب بينه و بينها عدة سنوات ثم صدم فى حبه و كانت الصدمة منها و كان الفراق بينهما و كان بكاءه الشديد وهو يرد إليها ذكرياتها عنده فى إحدى حدائق مصر الجديدة ولم يكن بكاؤه عن أسف عليها ولكن العقاد كان شديد الحساسية و سريع البكاء .
وقصة العقاد مع المرأة طويلة جدا و المتتبع لكتاباته يجد أن هذا الموضوع كان من موضوعات قراءاته الهامة و المتعددة .. فهو قرأ المائدة لأفلاطون وميتا فيزيقا الحب لشوبنهور ، كما قرأ ما كتبه علماء الجنس المتخصصون من أمثال " فرويد " و " أدلر " وغيرهم ، و قرأ فى سنه المبكرة كتاب " الجنس و الأخلاق " لأوتوفيننجر .. و أشار إليه فى مقال نشره بصحيفة ( البلاغ ) فى 26 نوفمبر1923م عن صفات المرأة نتيجة لتلك القراءات المتعددة عن المرأة وإمعان النظر فى تصرفاتها كان لابد أن يقف العقاد طويلا أمام قصة حواء حينما أكلت من الشجرة وزينت لآدم أن يأكل منها وكان كتابه ( هذه الشجرة ) .. وفى هذا الكتاب نظر العقاد إلى المرأة نظرة الفيلسوف المدقق والباحث الممحص و خرج فى نهاية بحثه أن تلك القصة التى تناقلتها الأديان هى الرمز الخالد فى طبيعة المرأة التى لا تتغير ، تفعل ما تنهى عنه و هى تغرى الرجل ، و فى كل هذين الخلقين دليل مجمل على خلائق أخرى مفصلة تنطوي فى ذلك الرمز لكبير ! كما انتهى فى بحثه أيضا إلى لذة العصيان ومن دلال يؤدى إلى لذة الممانعة ومن سوء ظن وعناد ضعف واستطلاع جهل و من عجز عن المغالبة وعجز عن الغلبة بغير وسيلة التشبيه والتعرض و الإغراء ولقد كانت لتلك الآراء التى ضمنها العقاد كتابه عن المرأة وقصة الشجرة أثرا فى نفوس البعض فتقولوا عليه بأنه عدو المرأة رقم واحد و أنه يحقد على المرأة و انه لا يعرفها ... إلى آخر تلك الأحكام المتسرعة . ولو أنهم دققوا النظر وأعملوا الفهم لوجدوا أنفسهم فى موقف المتجني على المفكر العملاق ، فالذي يقول فى كتابه ( المرأة فى القرآن ) وقد يوجد من النساء من تقوم شهادة إحداهن بشهادة ألف رجل ، في الوقت الذي يوجد من الرجال ألوف لا تقبل منهم شهادة .
أو الذي يقول فى مسألة الميراث أن زيادة حصة الأخ ليست مسألة أفضلية ولكن لأنه ــ الأخ ــ هو المسئول عن نفقة الأخت لأن الابن يعول من لا عائل لها من أهله ، و لأن رب البيت عامة هو الزوج أو الأب أو الرشيد من الأبناء والأخوة ومن إليهم لأن وجوب السعي على الرجل أولى و أصلح من تقريره على المرأة التى يظلمها من يساويها به فى واجبات السعي على المعاش مع نهوضها بواجب الأمومة و الحضانة وتدبير المعيشة المنزلية ، فهل من يقول هذا يمكن أن يتهم بالعداء للمرأة ؟
إن عملاق ومفكر مثل العقاد لا تتسع له المساحة المخصصة لهذا الموضوع بل يحتاج الأمر إلى كتب و مجلدات وعزائي أن الكاتب والفنان المبدع ذكرى .. و ذكرى العقاد ما تركه من رصيد أدبي له قيمته ، ومن أعمال ذات أثر فى نفوس الناس والأجيال .. و رصيد العقاد من الشموخ يجعله يتصدى لأعاصير الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق