داخل أحد أقسام الشرطة.. وفي أثناء انهماك الضابط في أوراق بحوزته يدخل عليه الأب الملهوف يشكو من خطف ابنته والاعتداء عليها من مجهول، يطلب الضابط استدعاء الفتاة وتوقيع الكشف الطبي عليها.. وعندما يتأكد له وقوع الجريمة، ويتمكن من القبض على الجاني، لا يملك أمام توسلات الأب ودموع الأم خوفا من الفضيحة، إلا أن يقوم باستدعاء المأذون لإتمام الزواج داخل القسم.
وقد يستعين بالمخبرين ليكونوا شهودا على العقد، ويخرج الطرفان، وقد تحولت العداوة إلى قرابة ومصاهرة॥ ولكن يبقى ما في القلب في القلب.. ويظل السؤال: هل الزواج الذي يحدث في الأقسام ويشهد عليه الضباط والمخبرون يمكن أن يكون نواة لأسرة صحيحة تسهم في بناء المجتمع؟
وقد يستعين بالمخبرين ليكونوا شهودا على العقد، ويخرج الطرفان، وقد تحولت العداوة إلى قرابة ومصاهرة॥ ولكن يبقى ما في القلب في القلب.. ويظل السؤال: هل الزواج الذي يحدث في الأقسام ويشهد عليه الضباط والمخبرون يمكن أن يكون نواة لأسرة صحيحة تسهم في بناء المجتمع؟
تفاصيل مؤلمة
30 ألف حالة زواج تحدث سنويا داخل أقسام الشرطة المصرية سببها الاغتصاب والزواج العرفي، هكذا أفادت أحدث إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، لتلفت إلى وجود هذا الكم من الضحايا تجرعْن من كأس الألم مرتين، الأولى عندما وقعن ضحية للغدر والثانية عندما سلمن أعناقهن لأيدي جلاديهن.
وبالرغم من أن الرقم قد انخفض معدله كثيرا بعد التعديل القانوني بإلغاء المادة 291، والتي كانت تعفي المغتصِب من العقوبة إذا ما تزوج ضحيته، فإن الرقم ما زال مخيفا يشير إلى ظاهرة الزواج بخنجر الاغتصاب، أو ما يطلق عليه في الأوساط الشعبية "ستر العرض..".
وبحسب التقرير فقد شاعت ظاهرة زواج المغتصَبات في أقسام الشرطة في مناطق بعينها، مثل مدينة نصر والجمالية (بالقاهرة) والعمرانية ( بالجيزة).
من داخل هذه الأقسام تعرفنا على كثير من القصص، حكايات مختلفة من ملفات الحياة تحمل سطورها أفراحا ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.. فهناك منى المعيدة بالجامعة والتي كانت تحلم بغد أكثر إشراقًا، يجمع بين رسالة الدكتوراه وحلمها بتأسيس عش الزوجية الذي يجمعها بمن يدق له قلبها..
في إحدى المرات وفي أثناء عودتها لمنزلها استقلت الـ"ميكروباص" من التحرير باتجاه فيصل، ولحظها السيئ كانت العربة خالية إلا من مرافق السائق وتباع صغير السن، وفجأة انحرف السائق بالسيارة تجاه أحد الشوارع المظلمة، استغاثت المسكينة، توسلت، بكت بشدة، ولكن شيطان الشهوة كان قد تملك قلوب وعقول الأشقياء الثلاثة، فقاموا بتكميمها وجردوها من ملابسها واغتصبوها ليتركوها في حالة إعياء شديد، وبرغم قسوة الموقف فإنها نجحت في التقاط رقم السيارة ما ساعد الشرطة في القبض على الذئاب الثلاثة، ولأن عائلة منى صعيدية الأصل فقد خافت أستاذة المستقبل من الفضيحة، وما يمكن أن يحدث في حالة معرفة الأهل بالحادث؛ لذا وافقت على الزواج من أحد مغتصبيها في قسم الشرطة، ولم تمر أيام إلا وطلبت الطلاق لتفقد أحلامها وتعيش كابوسا مؤلما ما زال يطارد خيالها حتى الان.
الخطيب النذل
مهندس زراعي تقدم لخطبة إحدى الفتيات بمنيل الروضة، وافق الأهل بشرط إحضاره شقة مستقلة للزواج بعيدا عن شقة الأسرة، وبعد عامين لم يستطع المهندس تنفيذ الشرط فهدده حما المستقبل بفسخ الخِطبة، استغل الشاب ثقة عروسه به فأقنعها بالذهاب لمنزل والده لإقناعه بمساعدته في توفير عش الزوجية، وعندما توجهت معه للمنزل لم تجد والده أو أيًّا من أفراد أسرته، حاولت الهرب لكنه انقض عليها وتمكن من اغتصابها.
بعد بلاغ تقدم به الأهل لقسم الشرطة॥ تم القبض على الخطيب الذي برر فعلته بحبه لعروسه ورغبته في إجبار أسرتها على القبول به، امتثل الأهل وتم عقد قرانهما في القسم، وانتقلت العروس لمنزل أهل الزوج॥ وهناك لاقت الأمرّين من الجميع الذين تعمدوا إهانتها ومعايرتها بما وقع لها على يد ابنهم، فحدث الطلاق سريعا بعد شهرين فقط وبعد أن أجبرت على التنازل عن جميع حقوقها.
صديقة السوء
"مروة" طالبة بالثانوي تقيم مع أسرتها بمنطقة ريفية॥ الحياة تمضي معهم دون مشاكل॥ غير أنها وقعت في خلاف مع صديقة لها عندما رفضت أن تكون همزة الوصل بينها وبين شاب على علاقة به، فقررت الصديقة الانتقام منها، وعندما ذهبت مروة إلى منزلها اتصلت بها إحدى زميلاتها لتخبرها بأن مدرس اللغة الفرنسية قام بتعديل موعد الدرس، وبالفعل خرجت مروة ولكنها لم تعد॥ ذهب الأب لقسم الشرطة وحرر محضرا بغياب ابنته وبدأ هو وأهله رحلة البحث؟ أيام ودق جرس التليفون.. ابنتكم في شبرا الخيمة بصحبة أحد الشبان، توجهت الأسرة على الفور لتجد ابنتها في شقة هذا الشاب لتخبره أنه أجبرها على الزواج منه بعقد عرفي، قام الأب بإبلاغ الشرطة التي لم تملك سوى استدعاء المأذون وتزويجهما بعقد رسمى.
زواج قسري
بحماس ممزوج بالأسى يتهم "مجدي صادق" مأذون شرعي بإمبابة المجتمع بأنه المسئول الأول والأخير عن هذه الجريمة قائلا: "هذا الزواج القسري لا تحصل فيه الزوجة على حقوقها التي كفلها لها الشرع والقانون، فقرار الزواج يأتي وليد اللحظة، فلا تفكر المرأة أو أسرتها إلا في الفضيحة دون أن تفكر في أي ضمانات، فالمهر يكون في حده الأدنى (25 قرشا)، ولا تكون هناك قائمة منقولات ولا مؤخر صداق.. لذلك فالطلاق يحدث سريعا؛ لأن الزوج لن يتحمل أيًّا من تبعات الطلاق التي يتحملها الرجل الذي يتزوج بطريقة طبيعية مقبولة اجتماعيا، بل على العكس في بعض الأحيان يساوم على الطلاق خاصة إذا كانت الزوجة ذات مستوى اجتماعي مميز أو من أسرة غنية.ويرى عز الدين عطا، مأذون بولاق أبو العلا ورئيس رابطة المأذونين الشرعيين، أن المأذون الذي يؤدي عمله بأمانة يجب ألا يترك المرأة أو الفتاة التي تتزوج في هذه الظروف بدون حقوق ينص عليها عقد الزواج، فإذا لم تطلبها كما يحدث في الواقع فعليه أن يكتبها بنفسه في قسيمة الزواج، وهو ما يفعله شخصيا ويطالب غيره من المأذونين الالتزام به، ويذكر أنه في مرة مشابهة أصر على كتابة مؤخر صداق كبير وقائمة منقولات لا تقل عن ثلاث غرف، وقد استراح بشدة عندما علم أن هذه الفتاة طُلقت بعد شهرين من زواجها، وأنه كان سببا في حفظ حقوقها.
تحايل على الشرع
عن رأي القانون في زواج المغتصَبة من الجاني يؤكد المستشار فايز بدير بهيئة قضايا الدولة: أن إلغاء المادة 291 من قانون العقوبات التي تعفي الجاني من العقوبة بزواجه من المغتصبة، لم يمنع على الإطلاق من منع وقوع جرائم الخطف والاغتصاب، وأن الأقسام مليئة بتلك الحالات، وأحيانا ما تلجأ الأسر إلى هذه الأقسام للضغط على الجاني لإتمام الزواج دون الإفصاح عما ارتكبه من أجل التحايل على القانون।
ويقترح أن يضاف إلى القانون مادة جديدة تسمح بإعادة العذرية للفتاة المغتصبة، وأن يكون لها الحق في إجهاض نفسها إذا حملت نتيجة الاغتصاب؛ لأنها يجب أن تشعر بستر المجتمع لها وحقها في حياة كريمة كبنات جنسها، وقتها سترفض أن تكون زوجة لخاطفها أو مغتصبها.
ويعتبر د. ناصف الخضر، أستاذ الشريعة بجامعة المنصورة، زواج المغتصِب من فريسته -والذي كان يتم وفقا للمادة الملغاة- تحايلا على الدين والشرع، مؤكدا ضرورة أن ينال المغتصب جزاءه مهما كانت الظروف؛ لأن الزواج في هذه الحالة يكون وليد إكراه معنوي على الفتاة وأسرتها التي توافق خوفا من الفضيحة، ويعتبره مشكوكا في صحته؛ لأن استمرار الحياة الزوجية مع بلطجي مغتصب أمر مستحيل.
ويعتبر د. ناصف الخضر، أستاذ الشريعة بجامعة المنصورة، زواج المغتصِب من فريسته -والذي كان يتم وفقا للمادة الملغاة- تحايلا على الدين والشرع، مؤكدا ضرورة أن ينال المغتصب جزاءه مهما كانت الظروف؛ لأن الزواج في هذه الحالة يكون وليد إكراه معنوي على الفتاة وأسرتها التي توافق خوفا من الفضيحة، ويعتبره مشكوكا في صحته؛ لأن استمرار الحياة الزوجية مع بلطجي مغتصب أمر مستحيل.
بداية ونهاية في القسم
"حاكموا المجتمع قبل أن تحاكموهم".. دعوة ممزوجة بالحسرة استهلت بها د.عزة كريم أستاذ الاجتماع بمركز البحوث الاجتماعية بالقاهرة، إجابتها عن أسباب تلك الظاهرة، موضحة أن غياب دور الأسرة وانشغال الأب الدائم بالبحث عن لقمة العيش، وانشغال الأم بعملها يجعل من الأبناء فريسة لثقافة الفيديو الكليب وسموم الفضائيات التي أصبحت المتحكمة الأولى والأخيرة في سلوك وأفعال وتصرفات هذا الجيل، فغابت القدوة وأصبحت الجريمة هي السائدة في المجتمع وبأشكالها المختلفة.
وتضيف: بالرغم من إلغاء القانون الذي يعطي للجاني الحق في الزواج من المجني عليها، والذي كان يشكل مأساة إنسانية ويولد لدى الفتاة شعورًا رهيبًا بعد الزواج ترى من خلاله الزوج في صورة شيطان، ولا تتخيله إلا لحظة اغتصابها ما يسبب لها المهانة والإحباط والظلم.. فإن المأساة اتخذت منحى آخر يقوم فيه الشاب باغتصاب الفتاة التي يتعلق بها إذا ما رفضه الأهل كي يضعهم أمام الأمر الواقع.
وتصف د. عزة زواج الأقسام بأنه محكوم عليه بالفشل، وعمره قصير؛ لأنه يفتقد لكل معاني الأهلية قائلة: يكفي أنه يفتقد لفرحة الزواج وزينته، وتحرم خلاله الفتاة من أجمل يوم في حياتها، وتظل ذكراه في قلوب الزوجين مدى الحياة كالجرح الدامي لا يندمل أبدا.
وتتوقع أن هذا الزواج مثلما بدأ في قسم الشرطة سينتهي أيضا في نفس المكان إما بارتكاب جريمة أو لاتهامات متبادلة أو بالطلاق الحتمي.
وترى الخبيرة الاجتماعية أن الوقاية خير من العلاج، وأن الأسرة لا بد أن تقوم بواجبها في تربية الأبناء والاقتراب منهم والاستماع إليهم للتعرف على مشاكلهم ومحاولة إيجاد الحلول لها، وخاصة الأم التي يقع عليها دور كبير في حماية أبنائها، وتنبه إلى دور المؤسسات الاجتماعية والدينية كالمدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة في التصدي لهذه الظاهرة التي تؤدي إلى تفسخ المجتمع وانهياره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق